بقلم - سوسن عبد الحميد الشيخ
في مروري أحيانا بالقرب من ميدان المحطة الوسطي
بمدينة بحري، كثيراً ما أتوقف أمام الرصيف الذي يعرض فيه باعة الكتب من أبناء الجنوب
الشقيق بضاعتهم، ونشأت بيني وبين بعضهم صداقة، كصداقتي مع العم بيتر، رغم فارق العمر،
فهو يقارب الستين طويل القامة، أبنوسي، فاحم، يضع قبعة، وكثيرا ما كنت أمازحة بقولي:"طاقية
سلفاكير".
وفي اليوم التاسع من يوليو2011م، وهو اليوم الذي اختار فيه
أبناء الجنوب طوعاً وبملء إرادتهم الانفصال في دولة مستقلة، بعد استفتاء، حضاري، قلت
في نفسي هل سأجد غداً العم بيتر في مكانه أم سيكون غادر تمهيداً لعودته إلي بلاده؟.
ولم أندهش مطلقا عندما وجدته هو وكل الباعة من أبناء الجنوب
في أماكنهم يمارسون عملهم بصورة عادية، لم يضايقهم أحد ولو بكلمة واحدة، لم يأت باعة
آخرون يحملون العصي لطردهم، طمعاً في مواقعهم.
وللحظة قصيرة طاف في ذهني شريط الأحداث التي أعقبت استقلال
باكستان عن الهند من مذابح دموية مروعة، قتل، وذبح.
وفي صمت مددت يدي أًقلب أحد الكتب وترنمت: "نحن شعب
نسيج وحده"، وكانت نظرات العم بيتر تقول نفس الشيء.
في ذلك النهار الإبريلي القايظ من نهارات الخرطوم، دلفنا
إلي بهو برج الفاتح، وصعدنا إلي الطابق الذي يعقد فيه الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي
كارتر مؤتمره الصحفي حول نتائج الانتخابات السودانية الأخيرة، كان المؤتمر قد قارب
على النهاية، وكانت القاعة مليئة بمندوبي وكالات الأنباء العالمية، ومراسلي الفضائيات
الكبرى.
وأخذت أتطلع في وجوههم، ووجدت أن نظرات الكثيرين منهم مليئة
بالخيبة، هاهُم سيعودون إلي بلادهم خالي الوفاض، وكانت لا تزال الأحداث التي صاحبت
الانتخابات الكينية عالقة بالأذهان، نيروبي ممتلئة بالجثث و القتلى بعد احتجاجات المعارضة
حول نتائج الانتخابات .
وتطلعت ببصري من خلف البهو الزجاجي متأملة النيلين الأبيض والأزرق وهما يتعانقا في هدوء، فما
انفصلا، ولا انحسرا، ولا اختلفا، ولا تشاجرا، وحينها مر بقربي الدكتور صلاح حليمة مندوب
الجامعة العربية بالخرطوم فسألته: هل كنت تتوقع أن يتكرر سيناريو كينيا في السودان؟
فضحك وقال: "من معرفتي بالشعب السوداني أقول مستحيل".
وبرغم المرارات والأخطاء، والجراح لن يكون السودان عراقاً
أو صومالاً أو حتى سوريا أخرى، هي ليست رواية رومانسية حالمة، ولكننا كسودانيين تعودنا
علي حل خلافاتنا بالعقل والحكمة، تلك الحكمة التي اكتسبناها من نبي الله موسي، ونبي
الله الخضر، حينما التقيا في الخرطوم، وأخذناها عن لقمان الحكيم.
إنها دعوة للجميع
حكومة ومعارضة، لوضع السلاح والجلوس حول مائدة المفاوضات، فنحن كنا وسنظل، شعب الثورات
البيضاء، والانقلابات البيضاء.
وسيظل السودان بتركيبته الفريدة عصيا علي الفهم حتى وإن طاف
القائم بالأعمال الأمريكي علي حلقات الذكر ورجال الطرق الصوفية محاولاً أن يفهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق