قلم- سراج عمر
"الجُرغُبّه" اسم يطلق على الشكل غير الهندسي
وغير المفهوم.. المتشابك غير معروف البداية ولا النهاية، الشكل الذي ارتسم نتيجة للتراكم
المتتالي لمجموع الحلقات الشريرة التي ظل رجل إفريقيا المريض يدور فيها منذ الأزل،
فكانت الحلقة الأولى (الحلقة لام): ديكتاتورية.. ديمقراطية.. ديكتاتورية، فصارت حرب..
مفاوضات.. حرب، أو تفاوض.. انسحاب.. تفاوض،
وإلى آخرة من الحلقات.
قد لا أكون متشائماً إذا ما توصلت إلى حقيقة
أن الرجل سينقسم للمرة الثانية خلال ثلاثة أعوام وسيكون الانقسام الثالث عقب الثاني
بأقل من عام، إذا ما استمر الإسلاميين في حكم السودان، وإذا ما استمرت القوى السياسية
في التحالف مع تنظيم الحركة الشعبية الذي يلعب دور محوري في هذة الانقسامات.
توسمنا خيراً في اتفاقية السلام الشامل
التي وقعت عام 2005، والتي انهت أطول حرب في إفريقيا التي استمرت لأكثر من 50 عام،
فإعتبرنا أن تنظيم الحركة الشعبية بإعتباره تنظيماً ثورياً يسعي لترسيخ الديمقراطية
ولترسيخ مشروع السودان الجديد الذي علقنا عليه الآمال، لكن للأسف كان مشروع السودان
الجديد هذا هو السودان المنقسم لأكثر من 4 دويلات!
أذكر في صيف عام 2010 أن القوى السياسية
وبقيادة الحركة الشعبية دعت للتظاهر رفضاً لقانون الأمن الوطني المُعيب الذي أجازه
البرلمان الإسلامي، خرجنا يوم أثنين من مقر حركة تحرير السودان بأم درمان متوجهين صوب
المجلس الوطني، لم نندهش لتعامل الشرطة بوحشية مع المتظاهرين وضربهم علي بعد 10 أمتار
من دار حركة تحرير السودان إضافة إلى إعتقال العشرات من ضمنهم ياسر عرمان، أحد قيادات
الحركة الشعبية ومرشحها لإنتخابات 2010، وهو الآن زعيم الحركة الشعبية قطاع الشمال
بعد أن نجحوا في فصل البلاد، ذهبنا إلى بيوتنا بعد مطاردات مع الشرطة والأمن، كما أعلنوا
عن مظاهرات في يوم الأثنين التالي لنتفاجأ أن أعضاء الحركة الشعبية الذين كانوا يمثلون
جزء كبير من متظاهري الأثنين الأول قد تبخروا.
لم نستغرب كثيرا لهذا الموقف من الحركة الشعبية
التي ضمن قبل الأثنين الثاني بعدة أيام أن برلمان الإسلاميين قد أجاز لهم قانون الاستفتاء،
أي القانون الذي يضمن انفصال ثلث البلاد.
تدور الأيام وتتشابة المواقف وتكرر الحركة
الشعبية نفس الموقف وتستغل القوى السياسية، حتي جاء التوقيع علي ميثاق الفجر الجديد
الذي ضم مجموعة من الحركات المسلحة والمدنية فتبشر به عدد من الرومانسيين خيراً، فلم
يكن إلا ميثاق لتقوية الموقف التفاوضي فكانت مسرح جريمة تفاوض فيه الحركة الشعبية علي
دماء مئات الآلاف الأبرياء في مدينة اسمرا قبل أقل من شهر.
كان ياسر عرمان يعد العدة لنيفاشا طوال
العشرين شهر السابقة، وأعتقد أن الحركة الشعبية الآن لديها القدرة لتنجز ما أنجزته
في 50 عام في 20 شهر، لخبرتها منقطعة النظير في هذا المجال، ولتقوية الموقف التفاوضي
هذا قام بإستغلال (الجبهة الثورية) التي تضم عدد من الحركات المسلحة بتصعيد عسكري يعد
الأقوى منذ سنين استولى فيه على 4 مدن في ولايات شمال وجنوب كردفان، وكان علي مرمى
حجر من مدينة الأبيض، وعلي بعد 650 كيلو متر من مدينة الخرطوم التي صرحوا بنيتهم في
تحريرها، لكن سرعان ما انسحبوا بعد ساعات منتظرين فترة الشهر التي أقروها بعد تعليق
المفاوضات في اسمرا التي فشلوا فيها.
لم يكن للحركة الشعبية بد سوي خلق طاب سياسي
يبرر خروجهم من التفاوض ويقوي من موقفهم جماهيريا، فقالوا أننا خرجنا من التفاوض لأن
النظام ليس لديه رغبة في حل المشكلة، ونحن نعتقد أن حل الأزمة هو حل شامل، ولا يمكن
حلها تفاوضياً عن طريق تنظيمين متجاهلين بقية القوي السياسية.
هذا الكلام جيد في مضمونه، لكن أعتقد أن
من قبل ولو مصافحة أي من مجرمي الإسلاميين يعد مشتركاً معهم في جريمة قتل ملايين السودانيين
في الجنوب ودارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة، نهيك عن التفاوض معه.
كما أعتقد أنه من الأجدى للحركة الشعبية
وبقية الحركات المسلحة أن تأتي وتحارب في الخرطوم بدلاً من المساهمة في قتل مئات الآلاف
من المدنيين في دارفور وجبال النوبة، كما لا أعتقد أن دماء السودانيين في الخرطوم هي
أغلى من دماء السودانيين في جبال النوبة، لكن الحقيقة العسكرية الصعبة هي أن هذه القوى
الحاملة للسلاح لا تملك القدرات العسكرية لاسقاط نظام الإسلاميين.
حل الأزمة في تقديري يجب أن يكون شاملاً،
كما قال "عرمان" وبمشاركة كل القوى السياسية بعيداً عن التفاوض مع الاسلاميين
في السلطة.
كفانا من الدوران في نفس الحلقة المفرغة
التي ظللنا ندور فيها منذ الأزل كالرجال البلهاء، وكما قال رسول الله محمد (صلى
الله عليه وسلم): "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين".